مكنت اللقاءات التشاورية التي نظمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان في عدد من جهات المملكة منذ أكتوبر 2020، والتي توجت بإصدار تقريره الموضوعاتي حول "فعلية الحق في الصحة بالمغرب.. التحديات والرهانات ومداخل التعزيز"، من تشخيص مجموعة من التحديات التي تواجه ضمان الحق في الصحة ببلادنا وحمايته، كما مكنت من الوقوف عند مختلف الرهانات التي ينطوي عليها النهوض بهذا الحق، كما تنص على ذلك المعايير الدولية للحق في الصحة.
واعتمادا على عناصر هذا التشخيص، الذي اعتمد فيه على مقاربة تشاركية وصاعدة، يعتبر المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره أن جهود تعزيز الحق في الصحة لجميع المواطنات والمواطنين ينبغي أن ينبني على استراتيجية وطنية للصحة تنبني على أربعة مرتكزات رئيسية:
1- دولة اجتماعية، ضامنة وحامية للحقوق
يرى المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن الأزمات التي عرفها العالم، ولاسيما جائحة (كوفيد-19)، أكدت أن الاستثمار في الحقوق الأساسية، وعلى رأسها التعليم والصحة، هو الضمانة الأساسية للخروج من الأزمة والتعاطي الاستباقي مع الأزمات المحتملة في المستقبل. وتتجلى محورية الدولة في هذا الإطار في كونها هي الفاعل الأساسي الذي يقع على عاتقه الاستثمار في المجالات ذات العلاقة بالحق في الصحة وتوفير الشروط الملائمة لتدخل فاعلين آخرين تحت مسؤولية ورقابة الدولة ووفق متطلبات نظام وطني للصحة باعتباره خدمة عمومية.
وفي نفس السياق، يشدد المجلس على ضرورة القطع مع التصورات التي تتعامل مع الصحة كقطاع اجتماعي غير منتج اقتصاديا، مذكرا بخلاصات التقرير الذي أعدته منظمة الصحة العالمية سنة 2001 في موضوع "الاقتصاد الكلي والصحة، الاستثمار في الصحة من أجل التنمية الاقتصادية"، والذي خلص إلى أن زيادة الاستثمار في الصحة له انعكاسات إيجابية على الاقتصاد.
2- تجاوز المقاربة القطاعية لضمان الحق في الصحة في ضوء مبادئ حقوق الإنسان
نظرا لتعدد العوامل المحددة لصحة المواطنين (عوامل اقتصادية، اجتماعية، بيئية وثقافية) والتي لا تدخل بالضرورة في نطاق السياسات الصحية القطاعية ولا تقع ضمن اختصاصات القطاع الحكومي الوصي على تنفيذها، فإن المجلس يدعو في تقريره إلى تجاوز المقاربة القطاعية في بناء وتنفيذ وتقييم السياسة الصحية واعتماد مقاربة مندمجة ومتعددة القطاعات. وفي هذا السياق، يؤكد المجلس على أهمية خلاصات وتوصيات الحوارات الجهوية التي دعت إلى مراجعة الإطار القانوني في اتجاه: تفعيل وتعزيز "مبدأ التكامل بين القطاعات" الوارد في المادة 2 من القانون الإطار رقم 34.0917؛ ترسيخ ومأسسة عملية تقييم أثر السياسات والقرارات والبرامج العمومية المختلفة على الصحة العامة وعلى قدرة المواطنين على التمتع بأقصى درجة ممكنة من الصحة الجسدية والعقلية؛ وتطوير وتشديد آليات المراقبة في هذا المجال وإشراك كل الفعاليات المجتمعية في إعداد وتنفيذ الاستراتيجية المتعددة القطاعات في مجال الصحة.
3- رفع تحدي الاستدامة وضمان الأمن الإنساني
يرى المجلس أنه ينبغي النظر إلى الحق في الصحة باعتباره أحد الأجوبة الرئيسية على إشكالية التنمية بشكل عام، وركنا أساسيا من مكونات الحق في التنمية ورهانا مركزيا للأمن الإنساني، وذلك بالنظر للعلاقة الاشتراطية الواضحة بين محددات الحق في الصحة، من جهة، ومقومات كل من التنمية المستدامة والأمن الإنساني من جهة أخرى.
ومن منطلق أن النهوض بالحق في الصحة يشكل أحد أهم أهداف أجندة 2030 للتنمية المستدامة، وأن معالجة الإشكالات الصحية تعتبر أحد أهم تحديات الأمن الإنساني، فإن المجلس يؤكد أن أي استراتيجية وطنية لتعزيز الحق في الصحة ينبغي أن تتأسس على وعي مسبق لدى الفاعلين بالأبعاد التنموية والأمنية لهذا الحق.
4- تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية
يؤكد المجلس على ضرورة ربط الإصلاحات في مجال الصحة بالجهود التي تبذلها الدولة في مجال تعزيز الجهوية وتقليص التفاوتات المجالية سواء بين الجهات أو داخل نفس الجهة، وفق مقاربة مجالية لدعم فعلية حقوق الإنسان الأساسية، وبناء سياسة صحية مناهضة للتمييز بمختلف أشكاله، وخاصة التمييز على أساس الانتماء المجالي. كما يدعو المجلس إلى إيجاد حلول ترابية لإشكالية استقرار الموارد البشرية الصحية في بعض المناطق المهمشة.
وقد خلص تقرير المجلس إلى ضرورة القطع مع الصحة كقطاع اجتماعي واعتماد مقاربة مندمجة ومتعددة القطاعات بتحديد التقاطعات وعناصر التأثير المتبادل بين الإشكاليات الصحية، من جهة، وبين المحددات الاقتصادية والاجتماعية والقضايا المرتبطة بسياسات التعليم والشغل والسكن والبيئة وأنماط العيش والغذاء، من جهة أخرى. كما يقترح عدة مداخل لتعزيز فعلية الحق في الصحة تشمل: تعزيز الحكامة؛ بناء نظام صحي قائم على المقاربة الوقائية؛ التغطية الصحية الشاملة؛ التكوين والبحث العلمي كرافعة لتعزيز السيادة الصحية؛ وإدماج القطاع الخاص ضمن نظام وطني للصحة كخدمة عمومية.