"نحن مدعوون للتداول بجدية حول مسار "التحول الديمقراطي الاجتماعي"، بعد مسار "التحول الديمقراطي السياسي" بابتكار أدوات جديدة للفعل والتعبير والمبادرة؛ لا تحتكم لعملية انتخابية كل أربع أو خمس سنوات، بل قادرة على توسيع نطاق الحوار الدائم والمستمر بين الفئات الشعبية الجديدة المؤثرة والنخب التي توجهها".
جاء ذلك خلال افتتاح أشغال لقاء التفكير المنظم يومه الجمعة 12 يوليوز بالرباط حول "التعابير العمومية وتحديات العدالة المجالية"، والذي يروم إطلاق التفكير الجماعي وتبادل الآراء والتحاليل بخصوص إشكالية ذات الصلة بالحريات، حرية التعبير، وعلاقتها بالتحديات التي تعرفها من حيث ضمانها، واحترامها والمسؤولية في تدبيرها في علاقتها بالعدالة المجالية.
وفي مستهل مداخلتها خلال افتتاح أشغال هذا اللقاء، الذي يجمع ثلة من الفاعلين المؤسساتيين والمدنيين، سردت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بعض عناصر تحديات العدالة المجالية في علاقتها بالتعابير العمومية وفي تفاعلها وإبداعها المتواصل والمستمر مع التداول الافتراضي والفعل العمومي في مسائلتهما للسياسة العمومية.
ولم يفت السيدة بوعياش التذكير بأن المجلس لا يتوخى من خلال هذا اللقاء الانكباب على حرية التظاهر والتجمهر التي حددت بمقتضيات دستورية وقانونية، وتخضع لمسطرة خاصة من حيث إعمالها وتحديد مسارها في الزمان والمكان، وإنما تدارس الأشكال الجديدة للتعبيرات العمومية التي أخذت مكانها ضمن فضاء الحريات العامة والتي أحدثت نماذج وأدوات للتعبير حول مجال من مجالات السياسة العمومية.
لقد تعددت هذه التعابير من حيث أسبابها، تضيف، لكنها استعملت نفس أدوات ووسائل التعبئة، والتي تنطلق، أي التعابير العمومية، بسب حدث محدد، كما هو الحال بعد وفاة المرحوم محسن فكري بالحسيمة، أو موضوع مرتبط بالتنمية، كما هو الحال بجرادة، أو قضية لها علاقة بالبيئة، كما هي تعابير زاكورة أو مناهضة منتوجات وطنية بحجة غلاء الأثمنة، كما هو الحال بالنسبة لحملة المقاطعة. ونعني بالتعابير العمومية، الأشكال والأنماط التي تبتدئ بالتداول الافتراضي للتتطور لفعل عمومي يساءل السياسة العمومية...
شبكات التواصل الاجتماعي والسمات الجديدة للتعابير العمومية
وفي ما يتعلق بدور شبكات التواصل الاجتماعي، أكدت رئيسة المجلس أن النموذج الناشئ للحريات العامة ينمو بوثيرة سريعة في بلورة مطالب أفراد أو مجموعات باعتمادها على شبكة التواصل الاجتماعي لتصبح مطالب قائمة الذات، تتطلب بالضرورة آليات للتفاعل والحوار من طرف السلطات العمومية.
فإذن شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت أرضية التداول والتوافق والتعبئة، إنها أيضا، أي شبكات التواصل الاجتماعي، مرتع لحرية التعبير، وللتعابير العمومية حول مطالب ذات الصلة بالسياسة العمومية. وبالتالي فنحن أمام أشكال جديدة لحرية التعبير، من الصعب إخضاعها لمقتضيات قانونية سواء للحد من انتشارها أو تقييدها. خاصة وأنها لم تعد محصورة على النخب حيث اتسع نطاقها، ولم تعد مرتهنة ببنيات الوساطة السائدة ومجموعات الضغط المألوفة وافتقادها في كثير من الأحيان إلى مخاطب رسمي ومركزي. كما أن "مطالبها" تكون ضمن دينامية مفتوحة وقابلة للتطور، فضلا عن ارتفاع منسوب الشك والارتياب لدى التعابير العمومية الناشئة إزاء الوسائط والبنيات السائدة وظهور أشكال وأنماط جديدة للتواصل والتعابير والانخراط المكثف للشباب والفئات الأكثر هشاشة، الخ.
هل يمكن للعدالة المجالية، في ضوء هذه السمات، أن تشكل إطارا للتجاوب والتفاعل الخلاق مع هذه التعابير المؤثرة بالمجال والصاعدة كأداة للمساءلة؟
لقد وضعت مقاربة التنمية، التي برزت في أوائل الثمانينات، مبدأي المساواة والعدالة بمعناهما التقليدي التوزيع والتخصيص محط تساءل، لتأتي بعد ذلك نظرية "القدرة" capacité لدى عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي "أمارتيا سين" والذي أوضح أن التوزيع العادل للموارد ليس كافيا لضمان العدالة بين الأفراد إذا كان لا يسمح، بشكل متساو، بـ"تحسين ظروف" الأفراد الأشد احتياجا.
إن الولوج، إذن، إلى "الجيل الثاني من حقوق الإنسان"، خاصة التعليم والصحة، ليس مسألة توزيع فحسب، بل هي بالخصوص مسألة حرية ومسألة ولوج إلى الفرص. إن هذا التباين بالضبط هو المحدد لعدم المساواة المجالية.
فعلى المستوى المجالي، لطالما شكلت أوجه عدم المساواة جغرافيا، وديمغرافيا، وتراكمها عبر التاريخ، تحديا دائمًا للسلطات المركزية. فأزمات الولوج، إلى الخدمات العمومية أو الثقافة أو البيئة السليمة[...] أو "الرفاه" أصبحت تتواتر أكثر فأكثر؛ وبسبب تزايد عدم المساواة سواء على الصعيد العالمي والوطني، أصبحت هذه الأزمات أحد عناصر القوة المحركة التي تنطلق منها شرارة التعابير العمومية الاجتماعية الجديدة.
هذا بالإضافة إلى أن أزمة الثقة وأزمة شرعية المؤسسات الناتجة عنها، التي يعتبرها المواطن، في كثير من الأحيان، بعيدة عنه وعن ما يشغله، بطيئة في عملها، أو غير فعالة حتى تتجاوزها تحديات اليوم، من حيث صياغة أجوبة موضوعية بخصوص التباطؤ الاقتصادي وتوفير شروط الحماية الاجتماعية الكافية وضمان قواعد الشفافية؛ إلى جانب تحديات النموذج التنموي، فإذن، أصبحت التكنولوجيات الجديدة المرتع الجديد لحرية التعبير بما تتيحه من انخفاض في تكلفة المشاركة، فإن الانتشار الهائل للآراء المتطرفة، ضمن ما يعرف "بغرف الصدى" (chambres d’écho) واستفحال ما يعرف (fake news) يعزز الانغلاق ويمنع التعرف على الآراء المختلفة ويقوم بتعميم الشك في المؤسسات.
وإذا كان أصل أزمات العدالة المجالية يعود بالأساس إلى عدم الاستثمار في الشأن المحلي وتدبير الخدمات العمومية من طرف السلطات المركزية. فإننا اليوم مطالبين بوضع ميثاق اجتماعي جديد يتم إعداده على المستوى المحلي والقطاعي والجهوي، وفق مقاربة تشاركية، يكون انطلاقة لحلول عملية، قابلة للتحقق ولضمان فعلية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية…
العدالة المجالية، إذن، يمكن أن تشكل مدخلا مركزيا للتفاعل مع أشكال التعابير العمومية الناشئة، بالنظر لما توفره من إطار مؤسساتي ومجالي، قائم على هندسة ترابية متجددة، تضع ضمن مرتكزاتها الخصوصيات السوسيوثقافية في بعدها التاريخي والاجتماعي والثقافي.
الاطلاع على النص الكامل لمداخلة السيدة بوعياش