نشرت مجلة "مرايانا" في عددها الأخير (نونبر 2022)، المخصص لموضوع البيئة والتحولات المناخية، افتتاحية السيدة آمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان التي جاءت بعنوان "التغير المناخي: نحو اعتماد جديد لتدبير الوفرة".
وفيما يلي النص الكامل للافتتاحية:
"التغير المناخي: نحو اعتماد جديد لتدبير الوفرة"
نعيش اليوم العقد الثالث من الألفية الثالثة، ولا تزال أزمة التغيرات المناخية بانعكاساتها الخطيرة والمآسي التي تخلفها قائمة ولا حلول ناجعة ونهائية تلوح في الأفق القريب. فما زال العالم يقف مشدوها أمام الحرائق التي تلتهم آلاف الهكتارات عبر العالم والموجات الحرارية المستمرة والأوبئة العابرة للحدود، ومواسم الجفاف المتتالية، بالإضافة إلى الفيضانات المدمرة وغيرها. ويواجه أزيد من نصف سكان العالم، حسب جل المعطيات، خطر انعدام الأمن المائي والغذائي.
سجلت مؤشرات رئيسية لتغير المناخ أرقاماً قياسية جديدة سنة 2021، وفقا للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، وتداعيات خطيرة على التنمية المستدامة والنظم الإيكولوجية التي تؤثر بشكل خاص على الفئات الهشة، خاصة الأشخاص في وضعية إعاقة والمسنين والمهاجرين والمرأة...
يحدث هذا في سياق دولي راهن تطبعه صراعات وتطورات سياسية وجيواستراتيجية عميقة ... حيث تتوارى، بين الفينة والأخرى، وبين جغرافية وأخرى، التهديدات التي تطرحها التغيرات المناخية في التمتع الكامل والفعلي بحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الحياة، والحق في الحصول على المياه وخدمات الصرف الصحي، والحق في الغذاء، والحق في الصحة، والحق في السكن، والحق في التنمية. وغيرها، بشكل مباشر وغير مباشر، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات.
وقد جاءت جائحة كوفيد 19 بتبعات متعددة ومتشابكة لتميط اللثام عن قدرتنا، كدول أولا وكتجمعات دولية، على اتخاذ مبادرات عاجلة لمعالجة الأزمات وتركيز الجهود لمواجهة التحديات والتهديدات الوجودية، وأبانت أن تغيير السلوك الفردي يصب حتما في مصلحة المجتمعات، وأعطت دروسا مهمة ذات صلة بدور الأفراد، يمكن استحضارها لمحاربة التغيرات المناخية خاصة فيما يتعلق بحتمية الربط بين المكونات اا جتماعية والسياسية والاقتصادية لضمان فعالية الحلول.
قد يخيل للبعض أن التغيرات المناخية وجائحة كوفيد 19 هي تحديات تختلف في ماهيتها وشكلها، لكنها في الواقع تشترك في بعض السمات الرئيسية كأزمات عابرة للحدود تتطلب العمل المشترك لتذليل الصعوبات ومواجهة التحديات طويلة الأمد؛ ذلك أن القلق من عدم كفاية التدابير العلاجية والوقائية قد يعكس معادلات مختلة تعطي الأولوية لمخاطر أقل وقعا على مصير الإنسان من الاحتباس الحراري.
من الواضح، إذن، أن بيئتنا ومعيشتنا اليومية قد تغيرت بشكل لا يمكن إنكاره، وبشكل يجعلنا مجبرين على التساؤل: هل جهودنا ليست كافية؟ هل تفتقر هذه الجهود للانخراط الفعلي والتام لكل الفاعلين؟ هل نحتاج إلى تغيير منهجية العمل وحتى التصور العام الذي يؤطر المفاوضات السياسية حول الموضوع لإعطائها بعدا حقوقيا وإنسانيا وعمليا أكثر عمقا وأوضح أثرا؟
إنها أسئلة ضرورية، والأكيد أن الإجابات عليها لن تكون إلا مركبة، لذلك بات من اللازم بناء استراتيجية تعاون تتميز بالإصرار على مواجهة مصير الأرض والإنسان. ويمكن القول إن اعتراف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لأول مرة، بالحق في بيئة نقية وسليمة ومستدامة كحق من حقوق الإنسان، قد يشكل قاعدة حقوقية، تبنى عليها مرافعات كل الفاعلين؛ مما يوضح بشكل لا لبس فيه، بأن تدهور النظام البيئي والتغيرات المناخية أزمتان مرتبطتان بحقوق الإنسان، ويبقى الإنسان الفاعل والمستفيد من استراتيجية واضحة تمتد على الأمد الطويل.
بعد أكثر من ثلاثين سنة، منذ أول مؤتمر سنة 1972 حول موضوع التغيرات المناخية، لازال النقاش الدولي منكبا على التغيرات المناخية باعتبارها فقط استراتيجيات لتقليص الكربون. إن التغيرات المناخية أكثر من ذلك، إنها بالضرورة استراتيجيات إعادة النظر في نمط الحياة، وبأن الإنسان لا يمكنه أن يعيش في نمط الوفرة، (abondance) ، خاصة المادية منها.
إن الاستراتيجية المتوخاة لمواجهة تغير المناخ عليها أن تعتمد كذلك على تغيير الفرد في ممارساته اليومية، وأولها عدم التبذير وحماية وتنمية التنوع البيولوجي (biodiversité) والاهتمام بكل الأنواع الحية (les espèces vivantes).
إن ضمان التنمية المستدامة سيكون بالأساس بوضع استراتيجية مواجهة التغيرات المناخية، ضمن هذه الرؤية، التي تقتضي وجوبا انخراط الأفراد والمؤسسات، الذين عليهم القيام "بتضحيات" باعتماد نموذج للحياة، يطلق ممارسات اجتماعية واقتصادية وثقافية، تؤسس لنمط جديد لليومي الإنساني بدون تبذير للوفرة.
إننا جميعا، بنمط حياتنا الحالي، نخلق العديد من المشاكل لكوكب الأرض.
آمنة بوعياش
رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان