شاركت السيدة أمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، يوم الخميس 4 يوليوز 2019 بالرباط، في أشغال الندوة العلمية حول موضوع "الحريات الفردية: بين التحولات المجتمعية والمرجعية الدينية".
ويتمثل الهدف من هذه الندوة العلمية، المنظمة على مدى يومين، بشراكة مع مؤسسة فريدريش ناومان للحرية في المغرب، التثبت من مدى استجابة الترسانة القانونية راهنا للتطورات التي يعرفها مجال الحقوق والحريات، على اعتبار حتمية التطور المتواصل للمجتمعات، سعيا وراء الرقي الاجتماعي المادي والروحي.
في ما يلي نص كلمة رئيسة المجلس خلال هذه الندوة:
السيد رئيس حركة ضمير؛
السيد مدير المكتبة الوطنية؛
السيدة ممثلة مؤسسة فريديريك نيومان؛
الحضور الكريم
الصديقات والأصدقاء
أود في البداية أن أشكر السيد رئيس حركة ضمير وأعضائها على الدعوة الكريمة للمشاركة في أشغال هذه الندوة العلمية الهامة، سواء من حيث راهنية الموضوع والإشكاليات التي سيتم التداول فيها وتبادل الرأي بشأنها أو من حيث تعدد زوايا مقاربتها.
لطالما اعتبر النقاش حول الحريات الفردية، بالنسبة للرأي العام، وبالنسبة للباحثين والأكاديميين على حد سواء، أن في طياته مكونات ثورية، أو على الأقل تحررية، أمام المرجعية الدينية، إلا أن هذه الثنائية في الحقيقة غير حتمية بالضرورة؛ ثنائية تلقي بظلالها في الأصل على دينامية أساسية يجب أن يدرسها الإنسان ليدرك، ليتمكن من الفعل.
الدين، سواء في جوهره أو في ممارسته، لا يقف بالضرورة حجر عثرة في وجه الحريات الفردية؛ لكن هذا الأمر لا ينطبق بالضرورة على قراءة البعض للدين وتأويلهم له واستغلاله.
ولعلي هنا أستشهد بما وقف عليه العالم الألماني ماكس ويبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، الذي تطرق فيه إلى أنه يمكن للمبادئ الدينية أن تكون فاعلة في التغيير الجذري وليس فقط في حماية أو تكريس الوضع القائم (أو status quo). وهذا ما يمكننا أن نستشفه أيضا من أمثلة عديدة في تاريخنا، سواء البعيد أو القريب، أمثلة لحركات دينية كان لها دور مهم في تكريس الحريات والمساواة، وأنا أقصد هنا بالطبع كل المذاهب التحررية...
وأيضًا في الحياة العملية بأشكال أو "فنون مقاومة" يومية، حسب منظور عالم السياسة الأمريكي والأنثروبولوجي جيمس سكوت (James C Scott).
من الواضح إذن أن الدين، والمرجعية الدينية عمومًا، ليسا في حد ذاتهما عقبة لأي تحول اجتماعي، إيجابيًا كان أم سلبيًا؛ لأن الدين يدخل في إطار بيئة يخضع لقواعدها. يمكن أن يؤدي إلى حروب أهلية أو مجتمعية، كما يمكن أن يكون محركا لحركة سياسية ذات بعد إنساني؛ يمكن أن يدعو إلى العنف، كما يمكن أن يكون مبشرا داعيا للسلم والسلام؛ يمكن أن يحمل نارا موقدة حارقة، كما يمكن أن يكون مصدرا لإضاءات متميزة.
الحضور الكريم
لقد انكبت هيئة الإنصاف والمصالحة على موضوع الحريات الفردية والجماعية وأصدرت توصية بخصوصها تهم تعزيز الحماية القانونية لهذه الحريات، وهو ما تم التنصيص عليه بالفعل في دستور 2011 بأحكامه المتعددة وأبوابه الثلاثة عشر، بما في ذلك أهم حرية مرتبطة بالعلاقة ما بين التحولات المجتمعية والحريات الفردية، المنصوص عليها في الفصل 25، ألا وهي حرية الفكر والرأي والإبداع المكفولة بكل أشكالها.
غير أن الممارسة الفعلية لمجموعة من الحريات الفردية لازالت تطرح العديد من التحديات التشريعية والمجتمعية ولا زالت تعيق تحرر الفكر والتعبير في قضايا جوهرية تطفو على السطح لأن مجال الحريات والحقوق يتسع باستمرار في حين تراوح الحماية القانونية في إطار عملية ملاءمة القوانين مع أحكام الدستور مكانها.
إننا نتطلع إلى نقاشاتكم وأفكار المشاركين والفاعلين لدعم مقاربتنا بالتفاعل العمومي حول القضايا الشائكة وكذلك توسيع قاعدة الداعمين للانتباه للحريات الفردية كمرتكزات للتحولات الاجتماعية.
الأصدقاء والصديقات
ورثنا في المغرب، تقاليد وتاريخا تتعايش فيه الأديان والحضارات والثقافات هو جوهر هويتنا. وإن كانت هناك دائما قواعد تحكم الفضاء العام، فالفضاء الخاص ظل عمومًا مكانًا متميزًا يتمتع فيه الإنسان المغربي بحريته.
كما أن مؤسساتنا الدينية قامت دائما بدور محوري ومبتكر وفاعل في التحول الثقافي والاجتماعي، وما تم من تغييرات بمدونة الأسرة وحديثا ظهير ولوج النساء لمهنة العدول، نموذجين ناجحين في الحسم في النقاش السائد ذات الصبغة الدينية حول مسألة المساواة بين الجنسين.
الأمر ذاته، الصديقات والأصدقاء، ينطبق على كل الحريات، لأن كل حقوق الإنسان في جوهرها وبدون استثناء هي حقوق فردية تضمن حريات فردية. الأمر لا يتطلب سوى بدل جهد فكري للفهم والنقاش بشكل منفتح والتعبير بشكل سلمي. ولا يمكن أن نتناسى أن الدين حق من الحقوق والعبادة حرية من الحريات.
طغيان هذا على ذاك تهديد حقيقي لتوازن هش وعرقلة كبيرة للتحولات المجتمعية لاحترام الحريات الفردية.
شكرًا لكم.